الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المزهر في علوم اللغة ***
أول ما يلزمه الإخلاص وتصحيح النية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنيات» ثم التحري في الأخذ عن الثقات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن العلم دِينٌ فانظروا عمن تأخذون دينكم»، ولا شك أن علم اللغة من الدِّين، لأنه من فروض الكفايات، وبه تعرف معاني ألفاظ القرآن والسنة، أخرج أبو بكر بن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء، بسنده عن عمر ابن الخطاب، رضي اللّه عنه قال: لا يُقْرِئ القرآن إلاّ عالم باللغة، وأخرج أبو بكر بن الأنباري في كتاب الوقف عن طريق عِكْرِمة عن ابن عباس قال: إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب. وقال الفارابي في خطبة ديوان الأدب: القرآن كلام اللّه وتنزيله، فَصل فيه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، مما يأتون ويَذَرُون، ولا سبيل إلى علمه وإدراك معانيه إلاّ بالتبحر في علم هذه اللغة، وقال بعض أهل العلم: حفظ اللغات علينا *** فرض كفرض الصلاة فليس يُضْبط دين *** إلاّ بحفظ اللغات وقال ثعلب في أماليه: الفقيه يحتاج إلى اللغة حاجة شديدة.
فصل: وعليه الدؤوب والملازمة، فبهما يدرك بغيته. قال ثعلب في أماليه: حدثني الحزامي أبو ضمرة قال: حدثني مَنْ سمع يحيي ابن أبي كثير اليماني يقول: كان يقال: لا يدرك العلم براحة الجسم. قال ثعلب: وقيل للأصمعي: كيف حفظت ونسي أصحابُك؟ قال: دَرَسْتُ وتركوا. قال ثعلب: وحدثني الفضل بن سعيد بن سلم قال: كان رجل يطلب العلم فلا يقدر عليه، فعزم على تركه، فمرَّ بما يَنْحَدِر من رأس جبل على صخرة قد أثَّر فيها، فقال: الماء على لطافته قد أثَّر في صخرة على كثافتها، واللّه لأطلبنَّ فطلب فأدرك. قلت: وإلى هذا أشار من قال: اطلب ولا تضجر من مطلب *** فآفة الطالب أن يضجرا أما ترى الماء بتكراره *** في الصخرة الصماء قد أثرا
فصل: وليكتب كل ما يراه ويسمعه، فذاك أضبط له، وفي الحديث: «قيدوا العلم بالكتابة». وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، حدثنا محمد بن يزيد عن أبي المحلم، قال: أنشدت يونس أبياتاً من رجز فكتبها على ذراعه؛ ثم قال لي: إنك لجيَّاء بالخير، وقال ابن الأعرابي في نوادره: كنت إذا أتيت العُقَيْلى لم يتكلم بشيء إلاّ كتبته، فقال: ما ترك عندي قابَّة إلاّ اقْتَبَّها، ولا نُقَارة إلاّ انتقرها. وقال القالي في المقصور والممدود: قال الأصمعي: قال عيسى بن عمر: كنت أنسخ بالليل حتى ينقطع سَوائي يعين وسطه، وفي فوائد النَّجَيْرَميّ بخطه: قال شُعْبَة: كنت أجتمع أنا وأبو عمرو بن العلاء عند أبي نوفل بن أبي عقرب، فأسأله عن الحديث خاصة، ويسأله أبو عمرو عن الشعر واللغة خاصة، فلا أكتب شيئاً مما يسأله عنه أبو عمرو، ولا يكتب أبو عمرو شيئاً مما أسأله أنا عنه.
فصل: وليرحل في طلب الفوائد والغرائب كما رحل الأئمة. قال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن قال: سمعت عمي يحدث أن أبا العباس ابنَ عمه- وكان من أهل العلم- قال: شهدت ليلة من الليالي بالبادية، وكنت نازلاً عند رجل من بني الصَّيداء من أهل القَصِيم، فأصبحت وقد عزمت على الرجوع إلى العراق، فأتيت أبا مَثْواي فقلت: إني قد هَلِعْت من الغربة، واشْتَقْتُ أهلي ولم أُفِدْ في قَدْمتي هذه عليكم كبيرَ علم؛ وإنما كنت أغْتَفِر وَحشة الغربة وَجَفاء البادية للفائدة؛ فأظهر توجُّعاً، ثم جفاء، ثم أبرز غداء فتغديت معه، وأمر بناقة له مَهْرية فارتحلها واكْتَفلها، ثم ركب وأرْدَفَني، وأَقْبَلَهَا مَطْلِع الشمس، فما سرنا كبير مسير، حتى لَقِِيَنَا شيخٌ على حمار وهو يترنم، فسلّم عليه صاحبي وسأله عن نسبه فاعْتَزَى أسدياً من بني ثعلبة؛ فقال: أتُنشد أم تقول؟ فقال: كُلاًّ، فقال: أينَ تُؤم؟ فأشار بيده إلى ماء قريب من الموضع الذي نحن فيه، فأناخ الشيخ وقال لي: خذ بيد عمك فأنزِلْه عن حماره، ففعلت؛ فألقى له كساء ثم قال: أنشدنا- يرحمك اللّه- وتصدَّق على هذا الغريب بأبيات يَعِيهنّ عنك، ويذكرك بهن؛ فقال: إي ها اللّه إذاً ثم أنشدني: لقد طال يا سوداء منكِ المواعد *** ودون الجَدَا المأمولِ منك الفَراقِدُ تمنيننا غداً وغيمكم غداً *** ضَبابٌ فلا صحوٌ ولا الغيم جائد إذا أنت أُعْطِيتَ الغنى ثم لم تَجُدْ *** بِفَضْل الغنى أُلْفيتَ مالَك حامدُ وقلّ غَناءً عنك مالٌ جمعته *** إذا صار ميراثاً ووَاراك لاحد إذا أنت لم تَعْرُك بجنبك بعض مَا *** يريبُ من الأدْنى رَمَاك الأباعِدُ إذا الحلم لم يَغلب لك الجهلَ لم تزل *** عليك بُرُوقٌ جَمّةٌ ورواعد إذا العزم لم يَفرُج لك الشّدّ لم تزل *** جنيباً كما استتلى الجنيبة قائد إذا أنت لم تترك طعاماً تحبُّه *** ولا مَقْعَداً تُدعى إليه الولائد تجللّت عاراً لا يزال يشُبُّه *** سِباب الرجال: نثرهم والقصائد وأنشدني أيضاً: تعزّ فإن الصبر بالحرّ أجمل *** وليس على رَيْب الزمان مُعَوَّل فلو كان يغني أن يُرى المرءُ جازعاً *** لنازلة أو كان يُغْني التَّذَلُّلُ لكان التعزِّي عند كل مصيبة *** ونازلةٍ بالحرّ أوْلَى وأجْمَل فكيف وكلٌّ ليس يعدو حِمامَه *** وما لامرئٍ عما قضى اللّه مَزْحَل فإن تكن الأيام فينا تبدَّلَت *** بِبُؤْسَى ونعمى والحوادث تفْعل فما ليَّنَتْ منا قناة صليبة *** ولا ذلّلَتْنا للتي ليس يَجْمُل ولكن رَحَلْناها نفوساً كريمة *** تُحَمَّل ما لا يستطاع فتحمل وقَيْنَا بعزم الصبرِ مِنَّا نفوسَنَا *** فَصَحَّتْ لنا الأعراض والناس هُزَّل قال أبو بكر قال عبد الرحمن قال عمي: فقمت واللّه وقد أنسيت أهلي، وهان علي طول الغربة، وشظف العيش سروراً بما سمعت، ثم قال لي: يا بُنيَّ مَنْ لم تكن استفادةُ الأدب أحبَّ إليه من الأهل والمال لم يَنْجُب. وقال محمد بن المعلى الأزدي في كتاب الترقيص: حدثنا أبو رياش عن الرياشي عن الأصمعي قال: كنت أغشى بيوت الأعراب، أكتب عنهم كثيراً حتى أَلِفوني، وعرفوا مُرادي، فأنا يوماً مارٌّ بَعذَارى البصرة، قالت لي امرأة: يا أبا سعيد ائت ذلك الشيخ، فإنَّ عنده حديثاً حسناً، فاكتبه إن شئت، قلت: أحسن اللّه إرشادَك؛ فأتيت شيخاً هِمّاً فسلمت عليه، فرد عليَّ السلام، وقال: من أنت؟ قلت: أنا عبد الملك بن قُرَيْب الأصْمَعي، قال: ذُو يتتبع الأعراب فيكتب ألفاظهم؟ قلت: نعم، وقد بلغني أن عندك حديثاً حسناً مُعْجباً رائعاً، وأخبرني باسمك ونسبك، قال نعم، أنا حذيفة بن سور العَجلاني، ولد لأبي سبعُ بنات متواليات، وحملت أمي: فقلق قلقاً كاد قلقه يفلُق حبةَ قلبه، من خوف بنت ثامنة، فقال له شيخ من الحي: ألاَ استغثت بمَنْ خَلَقهنّ أن يكفيك مؤْنتهن قال: لا جَرَم لا أدعوه إلاّ في أحب البقاع إليه؛ فإنه كريم لا يضيع قَصْد قاصديه، ولا يخيب آمال آمليه؛ فأتى البيت الحرام وقال: يا رب حسبي من بناتٍ حَسْبي *** شيَّبن رأسي وأكلن كَسْبي إن زدتني أخرى خلعتَ قلبي *** وزدتني همّاً يَدُقُّ صلبي فإذا بهاتف يقول: لا تقنطن غشيت يا بن سور *** بذَكَرٍ من خيرة الذُّكور ليس بمثمود ولا منزور *** محمدٍ من فعله مشكور موجَّهٍ في قومه مذكور فرجع أبي واثقاً باللّه جلَّ جلالُه، فوضعتني أمي، فنشأت أحسن ما نشأ غلام عِفّةً وكرماً، وبلغتُ مبْلغ الرجال، وقمت بأمر أخواتي وزوَّجتهن، وكنَّ عوانس، ثم قضى اللّه تعالى أن سترتهن ووالدتي، ثم منَّ اللّه عليَّ أن أعطاني فأوسع وأكثر، وله الحمد، وولدت رجالاً كثيراً ونساء؛ وإن بين يدي القوم من ظهري ثمانين رجلاً وامرأة.
فصل: وليعتن بحفظ أشعار العرب فإن فيه حكماً ومواعظ وآداباً، وبه يستعان على تفسير القرآن والحديث. قال البخاري في الأدب المفرد: حدثنا سعيد بن بليد حدثنا ابن وهب، أخبرني جابر بن إسماعيل وغيره عن عقيل عن ابن شهاب عن عُرْوة عن عائشة رضي اللّه عنها أنها كانت تقول: الشعر منه حَسَنٌ ومنه قبيح، خذ الحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعاراً منها القصيدة فيها أربعون بيتاً ودون ذلك. وقال أيضاً: حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد اللّه بن عبد الرحمن بن يعلى سمعت عمرو بن الشريد عن الشريد قال: استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هِيهِ هيه حتى أنشدته مائة قافية. وقال أيضاً: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني معن حدثني عمرو بن سلام أن عبد الملك ابن مروان دفع ولده إلى الشَّعْبي يؤدبهم فقال: عَلّمْهم الشعر يَمجدوا ويَنْجدوا، وأطعمهم اللحم تشتد قلوبهم، وجزّ شعورهم تشتد رِقابُهم، وجالس بهم عِلْيَة الرجال يُناقِضوهم الكلام. وقال ثعلب في أماليه: أخبرنا عبد اللّه بن شبيب قال: حدثني ثابت بن عبد الرحمن قال: كتب معاوية بن أبي سفيان إلى زياد: إذا جاءك كتابي فأوفد إليّ ابنك عبيد اللّه؛ فأوفده عليه فما سأله عن شيء إلاّ أنفذه له حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً، قال: فما منعك من روايته؟ قال: كرهت أن أجمع كلام اللّه وكلام الشيطان في صدري، فقال: اعْزُب واللّه لقد وضعت رجلي في الرِّكاب يوم صِفِّين مراراً؛ ما يمنعني من الانهزام إلاّ أبيات ابن الإطْنابة حيث يقول: أبتْ لي عِفَّتي وأبَى بَلائى *** وأخْذِي الحمدَ بالثَّمَن الرَّبيح وإعطائي على الإعدام مالي *** وإقدامي على البطل المُشيح وقولي كلما جَشأت وجَاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثرَ صالحات *** وأحمي بعدُ عن عِرْض صحيح وكتب إلى أبيه: أن رَوِّه الشعر، فروَّاه فما كان يسقط عليه منه شيء. وقال القالي في أماليه: أخبرني أبو بكر بن الأنباري، قال: أتى أعرابي إلى ابن عباس فقال: تَخَوَّفني مالي أخٌ لِيَ ظالمٌ *** فلا تَخْذُلَنِّي المال يا خير من بقي فقال: تخوفكَ تَنقّصك؟ قال: نعم، قال: اللّه أكبر {أوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} أي على تنقص من خيارهم.
فصل: ولا يقتصر على رواية الأشعار من غير تفهم ما فيها من المعاني واللطائف، فيدخل في قول مَرْوان بن أبي حفصة يذم قوماً استكثروا من رواية الأشعار ولا يعلمون ما هي: زوامل للأشعار لا علم عندهم *** بجيّدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا *** بأوساقه أو راح ما في الغرائر!
فصل: وإذا سمع من أحد شيئاً فلا بأس أن يتثبت فيه. قال في الصَّحاح: سألت أعرابياً من بني تميم بنجْد وهو يستقي وبكرته نخيس فوضعت أصبعي على النِّخَاس فقلت: ما هذا؟- وأردت أن أتعرف منه الحاء والخاء- فقال: نِخاس بخاء معجمة فقلت: أليس قال الشاعر: وَبَكْرَة نِحَاسُهَا نُحَاسُ *** فقال: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، والنِّخاس: خُشَيبة تلقم في ثقب البَكْرة إذا اتسع مما يأكله المحور. قال ابن دريد في الجمهرة: قال أبو حاتم: قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: عطس فلان فخرج من أنفه جُلَعْلِعَة، فسألته عن الكلمة فقال: هي خُنفساء، نصفها حيوان ونصفها طين، قال: فلا أنسى فرحي بهذه الفائدة.
وليرفُق بمن يأخذ عنه ولا يكثر عليه ولا يطول بحيث يضجر. وفي أمالي ثعلب: إنه قال حين آذوه بكثرة المسائل قال أبو عمرو: لو أمكنت الناس من نفسي ما تركوا لي طوبة؛ أي آجرّة،
فصل: فإذا بلغ الرتبة المطلوبة صار يدعى الحافظ، كما أن من بلغ الرتبة العليا من الحديث يسمى الحافظ، وعلم الحديث واللغة أخوان يجريان من واد واحد. قال ثعلب في أماليه: قال لي سلمة: أصحابك ليس يحفظون؟ قلت: بلى، فلان حافظ وفلان حافظ، قال: يغيرون الألفاظ ويقولون لي قال الفراء كذا وقال كذا وقد طالت المدة، فأجهد أن أعرف ذلك فلا أعرفه ولا أدري ما يقولون.
فصل: وظائف الحافظ في اللغة أربعة: أحدها وهي العليا: الإملاء، كما أن الحفاظ من أهل الحديث أعظم وظائفهم الإملاء، وقد أملى حفاظ اللغة من المتقدمين الكثير، فأملى ثعلب مجالس عديدة في مجلد ضخم، وأملى ابنُ دريد مجالس كثيرة رأيت منها مجلداً، وأملى أبو محمد القاسم بن الأنباري وولده أبو بكر ما لا يحصى، وأملى أبو علي القالي خمسة مجلدات، وغيرُهم، وطريقتهم في الإملاء كطريقة المحدِّثين سواء، يكتب المستملي أول القائمة: مجلس أملاه شيخنا فلان بجامع كذا في يوم كذا ويذكر التاريخ، ثم يورد المملي بإسناده كلاماً عن العرب والفصحاء، فيه غريب يحتاج إلى التفسير ثم يفسره، ويورد من أشعار العرب وغيرها بأسانيده، ومن الفوائد اللغوية بإسناد وغير إسناد ما يختاره. وقد كان هذا في الصدر الأول فاشياً كثيراً، ثم ماتت الحفاظ، وانقطع إملاء اللغة عن دهر مديد واستمر إملاء الحديث، ولما شرعت في إملاء الحديث سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة وجددته بعد انقطاعه عشرين سنة من سنة مات الحافظ أبو الفضل بن حجر أردت أن أجدد إملاء اللغة وأحييه بعد دثوره، فأمليت مجلساً واحداً فلم أجد له حَملة ولا من يرغب فيه فتركته، وآخر من عَلِمتُه أَمْلى عَلَى طريقة اللغويين أبو القاسم الزجاجي، له أمالٍ كثيرة في مجلد ضخم، وكانت وفاته سنة تسع وثلاثين وثلثمائة، ولم أقف على أمال لأحدٍ بعده. قال ثعلب في أماليه: حضرت مجلس ابن حبيب فلم يُمْل فقلت: ويحك أَمْلِ، مالك؟ فلم يفعل حتى قمت، وكان حافظاً صدوقاً في الحق، وكان يعقوب أعلم منه، وكان هو أحفظ للأنساب والأخبار منه. قلت: في هذا توقير العالم مَنْ هو أجلُّ منه فلا يُملي بحضرته. الوظيفة الثانية: الإفتاء في اللغة، وليقصد التحري والإبانة والإفادة والوقوفَ عند ما يعلم، وليقل فيما لا يعلم: لا أعلم، وإذا سئل عن غريب وكان مفسراً في القرآن فليقتصر عليه. قال ثعلب في أماليه: قال لي محمد بن عبد اللّه بن طاهر: ما الهَلع؟ فقلت: قد فسره اللّه تعالى، ولا يكون أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس.
قال: القاضي أبو علي المُحسن بن التَّنُوخي في كتابه، أخبار المذاكرة ونِشْوار المحاضرة، حدثني علي بن محمد الفقيه المعروف بالمسرحي أحد خلفاء القضاة ببغداد قال: حدثني أبو عبد اللّه الزعفراني، قال: كنت بحضرة أبي العباس ثعلب يوماً فسئل عن شيء فقال: لا أردي، فقيل له: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد؟ فقال للسائل: لو كان لأمك بعدد لا أدري بَعْر لاسْتَغْنَتْ. قال القاضي أبو علي: ويشبه هذه الحكاية ما بلغنا عن الشَّعبي أنه سئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: فبأي شيء تأخذون رزق السلطان؟ فقال: لأقول فيما لا أدري لا أدري! وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الأشراف: حدثني أبو صالح المرْوَزِيّ قال: سمعت أبا وهب محمد بن مزاحم قال: قيل للشَّعبي: إنا لنستحيي من كثرة ما تُسأل فتقول لا أدري، فقال: لكنْ ملائكةُ اللّه المقربون لم يستحيوا حين سئلوا عما لا يعلمون أن قالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. وقال محمد بن حبيب: سألت أبا عبد اللّه محمد بن الأعرابي في مجلس واحد عن بضع عشرة مسألة من شعر الطِّرِماح يقول في كلها: لا أدري ولم أسمع؛ أَفَأُحَدِّثُ لك برأيي أورده ياقوت الحموي في معجم الأدباء. وفي أمالي ثعلب: قال الأخفش: لا أدري واللّه ما قول العرب وضع يديه بين مَقْمُورَتين يعني بين شَرَّتين. وفي الغريب المصنف: قال الأصمعي: ما أدري ما الحَور في العين، قال: ولا أعرف للصَّوت الذي يجيء من بطن الدابة اسماً، قال: والمِصْحاة إناء ولا أدري من أي شيء هو، قال: ولا أدري لم سمي سامٌّ أبرص. وسئل الأصمعي عن عُنْجُول، فقال: دابة لم أقف على حقيقته، نقله في الجمهرة،. وفيها: قال أبو حاتم: قلت للأصمعي: ممّ اشتقاق هَصَّان وهُصَيْص؟ قال: لا أدري. وقال أبو حاتم: أظنه مُعَرَّباً؛ وهو الصّلب الشديد؛ لأن الهَصّ: الظّهر بالنَّبَطية. وقال الأصمعي فيما زعموا: قيل لنصيب: ما الشَّلْشَال؟ في بيت قاله، فقال: لا أدري، سمعته يقال فَقُلْتُه، فقال ابن دريد: ماء شلشل؛ إذا تَشَلْشَل قطرة في إثر قطرة. وفيها: قال الأصمعي: لا أدري ممَّ اشتقاق جَيْهان وَجُهَيْنة وأَرْأَسَة: أسماء رجال من العرب. قال ابن دُريد في الجمهرة: جيئَل اسم من أسماء الضَّبُع: سألت أبا حاتم عن اشتقاقه فقال: لا أعرفه، وسألت أبا عثمان، فقال: إن لم يكن من جألتُ الصوف والشعر إذا جمعتهما فلا أدري. وقال ابن دريد: أملى علينا أبو حاتم قال: قال أبو زيد: ما بني عليه الكلام ثلاثة أحرف فما زاد رَدّوه إلى ثلاثة وما نقص رَفعوه إلى ثلاثة، مثل أب وأخ ودم وفم ويد. وقال ابن دريد: لا أدري ما معنى قوله فما زاد ردوه إلى ثلاثة، وهكذا أملى علينا أبو حاتم عن أبي زيد ولا أغيِّره. وقال ابن دريد: الصُّبَاحية: الأسنة العِراض لا أدري إلى من نسبت. وقال ابن دريد: أخبرنا أبو حاتم عن الأخفش قال: قال يونس: سألت أبا الدُّقَيش: ما الدُّقَيش؟ فقال: لا أدري، إنما هي أسماء نسمعها فنتسمى بها، وقال أبو عبيدة: الدَّقْشة: دُوَيبَّة رقطاء أصغر من القطاة، قال: والدُّقيش: شبيه بالقَشّ. وقال ابن دريد: قال أبو حاتم: لا أدري من الواو هو أم من الياء قولهم: ضَحى الرجل للشمس يضْحى، ومنه قوله تعالى: {لاَ تظْمَأُ فِيها وَلاَ تضْحَى}، وقال أبو إسحاق النَّجَيْرمِي: تقول العرب: إن في ماله لمنتفداً: أي سعة، ولست أحفظ كيف سمعته بالفاء أو بالقاف.
فسأل مَنْ هو أعلم منه قال الزجاجي في أماليه: أخبرنا نِفطويه قال: قال ثعلب: سألنا بعض أصحابنا عن قول الشاعر: جاءت به مُرْمَداً ما مُلاّ *** مانيّ ألّ خَمّ حين أَلَّى فلم أدر ما أقول، فصرت إلى ابن الأعرابي فسألته عنه، ففسره لي فقال: هذا يصف قرصاً خبزته امرأة فلم تنضجه. مرمداً؛ أي ملوَّثاً بالرماد، ما مُلَّ؛ أي لم يُملَّ في المَلَّة، وهي الجمر والرماد الحار، وما في مانِيَّ زائدة، فكأنه قال: نيَّ أل، والأل وجهه، يعني وجه القرص، وخم؛ أي تغير حين ألَّى؛ أي حين أبطأ في النضج.
فصل: ومن بركة العلم وشكره عزْوُه إلى قائله. قال الحافظ أبو طاهر السِّلفي: سمعت أبا الحسن الصيرفي يقول: سمعت أبا عبد اللّه الصوري يقول: قال لي عبد الغني بن سعيد: لما وصل كتابي إلى عبد اللّه الحاكم أجابني بالشكر عليه وذكر أنه أملاه على الناس، وضمّن كتابه إليّ الاعترافَ بالفائدة، وأنه لا يذكرها إلاّ عني، وأن أبا العباس محمد بن يعقوبَ الأصم حدثهم قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري قال: سمعت أبا عبيد يقول: مِنْ شكر العلم أن تستفيد الشيء، فإذا ذكر لك قلت: خفي عليَّ كذا وكذا، ولم يكن لي به علم حتى أفادني فلان فيه كذا وكذا؛ فهذا شكر العلم. انتهى. قلت: ولهذا لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفاً إلاّ معزواً إلى قائله من العلماء، مبيناً كتابه الذي ذكر فيه. وفي فوائد النَّجَيْرَمِيِّ بخطه: قال العباس بن بكار للضبيّ: ما أحسن اختيارك للأشعار؛ فلو زدتنا من اختيارك فقال: واللّه ما هذا الاختيار لي، ولكن إبراهيم بن عبد اللّه استتر عندي، فكنت أطوف وأعود إليه بالأخبار فيأنس ويحدثني، ثم عرض لي خروج إلى ضيعتي أياماً فقال لي: اجعل كتبك عندي لأستريح إلى النظر فيها فتركت عنده قمطرين فيهما أشعار وأخبار، فلما عدت وجدته قد علم على هذه الأشعار، وكان أحفظ الناس للشعر فجمعته، وأخرجته فقال الناس: اختيار المفضّل.
قال في الجمهرة:: أحسب أنهم قالوا: أشَّ على غنمه يَئِس أشّاً مثل، هشَّ سواء؛ ولا أقف على حقيقته. وقال ابن دريد: أحسبني قد سمعت جمل سِنْدَأْب؛ صلْب شديد. وقال أبو عبيد في الغريب المصنف: قال أبو عمرو: أحسبني قد سمعت رماح أَزَنِيَّة.
فصل: وإذا اتفق له أنه أخطأ في شيء، ثم بَانَ له الصواب فليرجع، ولا يصر على غلطه. قال أبو الحسن الأخفش: سمعت أبا العباس المبرِّد يقول: إن الذي يغلط ثم يرجع لا يعد ذلك خطأ، لأنه قد خرج منه برجوعه عنه، وإنما الخطأ البَيِّن الذي يصر على خَطائِه ولا يرجع عنه فذاك يعد كذاباً ملعوناً.
قال في الجمهرة: أجاز أبو زيد: رثَّ الثوب وأرثَّ؛ وأبى الأصمعي إلاّ أرثَّ، قال أبو حاتم: ثم رجع بعد ذلك، فأجاز رَثّ وأرثَّ رَثَاثَة ورثُوثة. وقال في باب آخر: أجاز أبو زيد وأبو عبيدة: صَبَت الريح وأصبت ولم يجزه الأصمعي، ثم زعموا أن أبا زيد رجع عنه. وقال فيها: قال الأصمعي: يقال كان ذلك في صَبائه، يعني في صِباه؛ إذا فتحوه مَدّوه، ثم ترك ذلك، وكأنه شك فيه! وفي الغريب المصنف: كان أبو عبيدة مرةً يروي: زَبقته في السجن؛ أي حبسته بالزاي ثم رجع إلى الراء. وفي الغريب المصنف أيضاً: الدّحْداح: القصير، قال أبو عمرو بالدّال ثم شك فقال بالذال وبالدال، ثم رجع، فقال بالدال؛ وهو الصواب.
وإذا تبين له الخطأ في جواب غيره من العلماء فلا بأس بالرد عليه ومناظرته ليظهر الصواب. قال الفضل بن العباس الباهلي: كان أول من أغرى ابن الأعرابي بالأصمعي أن الأصمعي أتى ولد سعيد ابن سَلْم الباهلي فسألهم عما يَرْوُونه من الشعر فأنشده بعضهم القصيدة التي فيها: سمين الضَّواحي لم تُؤَرِّقْه ليلةٌ *** وأنْعَمَ أبكارُ الهموم وعُونُها فقال الأصمعي: من رَوَّاك هذا الشعر؟ قال: مؤدب لنا يعرف بابن الأعرابي: قال: أحضروه، فأحضروه، فقال له: هكذا روَّيتَهم هذا البيت برفع ليلة؟ قال: نعم، فقال الأصمعي، هذا خطأ؛ إنما الرواية ليلةً بالنصب، يريد: لم تؤرقه أبكار الهموم وعونها ليلةً من الليالي، قال: ولو كانت الرواية ليلةٌ بالرفع كانت ليلة مرفوعة بتؤرقه، فبأي شيء يرفع أبكار الهموم وعونها!
فصل: وإذا كان المسؤولُ عنه من الدقائق التي مات أكثرُ أهلها؛ فلا بأسَ أن يسكت عن الجواب إعزازاً للعلم وإظهاراً للفضيلة. قال أبو جعفر النحاس في شرح المعلقات: حكي عن الأصمعي أنه قال: سألتُ أبا عمرو بن العلاء عن قوله: زعموا أنَّ كلَّ مَنْ ضرب العَيْ *** ر مُوالٍ لنا وأَنَّا الوَلاء فقال: مات الذين يعرفون هذا. وقال أبو عبيد في أماليه: حكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سُئِل عن قول امرئ القيس: نطْعُنُهُمْ سُلْكَى ومَخْلُوجَةً *** كرَّك لأْمَيْنِ على نَابِل فقال: قد ذهب من يُحْسِنه. فصل: ولا بأس بالسكوت إذا رأى من الحاضرين ما لا يليق بالأدب. قال ثعلب في أماليه: كنا عند أحمد بن سعيد بن سلم وعنده جماعة من أهلِ البصرة؛ منهم أبو العالية والسدري وأبو معاوية وعافية فجرت بيننا وبينهم أبيات الشّماخ فخُضْنَا فيها إلى أن ذكرنا قول ابن الأعرابي: إذَا دعت غَوْثَها ضرَّاتُها فَزِعتْ *** أطباقَ نيٍّ على الأثْبَاج منْضودِ قال ثعلب: فقلنا: ابن الأعرابي يقول: قرِعَت فضحكوا من ذلك، فنحن كذلك إذ دخل ابن الأعرابي، فسألته عن الأبيات وألححت عليه في السؤال؛ فانقبض من إلحاحي فقلت له: مالك قد انقبضت؟ قال: لأنك قد ألححت، قال: كنت مع هؤلاء القوم في هذه الأبيات فلما جئتَ سألتك، قال: كان ينبغي أن تتركهم حتى يسألوا هم، ثم تكلم إلى العصر؛ ما مِنْ إنسان يرُدُّ عليه حرفاً، ثم انصرف، فأتيته يوم الثُّلاثاء، فإذا أبو المكارم في صدر مجلسه، فقال: سله عن الأبيات فسألته فأنشدني قرِعَتْ: فقلت: ما قرعت؟ قال: إنه يشتد عليها الحَفْل إذا أبطأوا بحلبها حتى يجيءَ الِوطاب فَتُقْرَع لها العُلَب فتسكن لذلك والعُلَب من جلود الإبل؛ وهي أطباق النِّيء، فقال لي ابن الأعرابي: قد سمعت كما سمعت. قال ثعلب في أماليه: من قال فَزِعت أي استغاثت بشحم ولحم كثير، وكذا يروي أبو عمرو والأصمعي، فزع: استغاث؛ أي أراد؛ أغاثها الشحم واللحم.
فصل: وليْتثبّت كل التثبت في تفسير غريب وقع في القرآن أو في الحديث. قال المبرِّد في الكامل: كان الأصمعي لا يفسر شعراً يوافق تفسيرُه شيئاً من القرآن، وسئل عن قول الشَّمَاخ: طَوَى ظِمأها في بَيْضَة القيظ بعد ما *** جرى في عنان الشِّعْرَييْن الأَمَاعز فأبى أن يفسر في عنان الشِّعْرَيَيْنِ. وقال ابن دريد في الجمهرة: قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن الصَّرْف والعَدْل فلم يتكلم فيه. قال ابن دريد: سألت عنه عبد الرحمن فقال الصّرف: الاحتيال والتكلف، والعَدْل: الفِدى والمِثْل، فلم أدر ممن سمعه. قال ابن دريد. وقال أبو حاتم: قلتُ للأصمعي: الرَّبة: الجماعة من الناس، فلم يقل فيه شيئاً، وأوهمني أنه تركه لأن في القرآن " رِبِّيُّونَ " أي جماعة منسوبة إلى الرَّبّ؛ ولم يذكر الأصمعي في الأساطير شيئاً. قال في الجمهرة في باب ما اتفق عليه أبو زيد وأبو عبيد: وكان الأصمعي يشدد فيه ولا يجيز أكثره مما تكلمت به العرب من فعلت وأفعلت، وطعن في الأبيات التي قالتها العرب واستشهد على ذلك. فمن ذلك: بان لي الأمر وأَبان، ونَارَ لي الأمر وأنار؛ إلى أن قال: وسرى وأسرى، ولم يتكلم فيه الأصمعي لأنه في القرآن، وقد قرئ " فَأسرِ بأهْلِكَ " و " فَاسْرِ بأهْلِكَ ". قال: وكذلك لم يتكلم في عصفت وأعصفت، لأن في القرآن " رِيحٌ عَاصِفٌ " ولم يتكلم في نَشَر اللّه الميت وأنْشَرَه. ولا في سَحَته وأسحته، لأنه قُرِئَ " فَيُسْحِتَكُمْ ". ولا في رفث وأرفث. ولا في جَلَوْا عن الدار وأَجْلَوْا. ولا في سلك الطريق وأسلكه، لأن في القرآن " مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ ". ولا في يَنَعت الثمر وأينعت، لأنه قرئ " يَنْعِهِ " ويَانِعِهِ، ولا في نَكِرته وأنكرته، لأن في التنزيل " نَكِرَهُمْ " " وقَوْمٌ مُنْكَرُونَ ". ولا في خلد إلى الأرض وأخلد. ولا في كنَنْت الحديث وأكننته، لأن في التنزيل " بَيْضٌ مَكْنُونٌ " " مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ". ولا في وعيت العلم وأوعيته، لأن فيه " جَمَعَ فَأوْعى ". ولا في وحي وأوحى. قال في الجمهرة: الذي سمعت أن معنى الخليل الذي أصفى المودة وأصَحَّها، ولا أزيد فيها شيئاً، قال: لأنها في القرآن يعني قوله تعالى: {واتَّخَذَ اللّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}. وقال: الإدّ من الأمر: الفظيع العظيم، وفي التنزيل: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إدّاً}، واللّه أعلم بكتابه. وقال: {تَلَّه}، إذا صرعه، وكذلك فسر في التنزيل واللّه أعلم بكتابه. وقال: زعم قوم من أهل اللغة أن اللاّت التي كانت تُعبد في الجاهلية صخرة كان عندها رجل يَلُثُّ السويق للحاج، فلما مات عُبِدَتْ ولا أدري ما صحة ذلك، ولو كان ذلك كذلك لقالوا: اللاتّ يا هذا، وقد قرئَ اللاَّت والعُزَّى بالتخفيف والتشديد واللّه أعلم، ولم يجئ في الشعر إلاّ بالتخفيف، قال زيد بن عمرو بن نفيل: تركت اللات والعزى جميعاً *** كذلك يفعل الجَلْدُ الصَّبور وقد سَمَّوْا في الجاهلية زيد اللات بالتخفيف لا غير، فإن حملت هذه الكلمة في الاشتقاق لم أحب أن أتكلم فيها. وقال: قد جاء في التنزيل { حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ} قال أبو عبيدة: عذاباً؛ ولا أدري ما أقول في هذا. وقال: الأَثَام لا أحب أن أتكلم فيه، لأن المفسرين يقولون في قوله تعالى: {يَلْقَ أَثَاماً} هو واد في جهنم. وقال ابن دريد: روي عن علي رضي اللّه عنه: أفْلَحَ مَنْ كانت له مِزَخَّهْْ *** يَزُخُّهَا ثم ينام الفَخَّه قال: أحسب الفخة النفخ في النوم، وهذا شيءٌ لا أقدم على الكلام فيه.
فصل: قال المبرِّد في الكامل: كان الأصمعي لا يفسر ولا ينشد ما كان فيه ذكر الأنواء، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا ذكرت النجوم فأَمسكوا» وكان لا يفسر ولا ينشد شعراً يكون فيه هجاء.
قال الأزدي في كتاب الترقيص: أنشدني أبو رياش: أمّ عيال ضَنْؤُها غيرُ أَمِرْْ *** صَهْصَلِقُ الصَّوْت بعينيها الصَّبِرْ تغدو على الْحي بعود منكسرْ *** وتقمطرّ تارة وتَقْذَحِرّ لَوْ نُحِرَتْ في بيتها عَشرُ جُزُرْ *** لأصْبَحَتْ من لحمهن تعتذِرْ بِحَلِفٍ سَحًّ ودَمْع مُنْهَمِر *** قلت لأبي رياش: ما معنى تَقْذَحِرّ فقال: حدثني ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم قال أنشدناه الأصمعي فسألته عنه فقال: أنشدناه أبو عمرو بن العلاء فسألته عن الاْقذِحْرَارِ فقال: أرأيت سِنّوراً بين رَوَاقِيد لم يزدني على هذا شيئاً. وقال في الصِّحاح: المقذحرّ: المتهيئ للسباب والشرّ؛ تراه الدهرَ منتفخاً شبه الغضبان، قال أبو عبيدة: هو بالذال والدال جميعاً، والمقذعر مثله، قال الأصمعي: سألت خَلفاً الأحمر عنه فلم يتهيأ له أن يُخرج تفسيره بلفظ واحد، فقال: أما رأيت سِنَّوراً متوحشاً في أصل رَاقُود!
فصل: وإذا كان له مخالف فلا بأس بالتنبيه على خلافه. قال في الغريب المصنف: قال الكسائي: الذي يلتزق في أسفل القدر القُرارة، والقُرورة، وقال الفراء عن الكسائي: هي القُرَرة؛ فاختلفتُ أنا والفراء فقال هو قُرَرة وقلت أنا قُرُرة.
فصل: ويكون تحريه في الفتوى أبلغ مما يذكر في المذاكرة. قال أبو حاتم السجستاني في كتاب الليل والنهار، سمعت الأصمعي مرة يتحدث فقال: في ِحِمّرة الشتاء، فسألته بعد ذلك هل يقال: حمرة الشتاء؟ فجبن عن ذلك وقال: حِمرّة القيظ.
الوظيفة الثالثة والرابعة: الرواية والتعليم، ومن آدابهما الإخلاص، وأن يقصد بذلك نشر العلم وإحياءَه، والصدق في الرواية، والتحري والنصحَ في التعليم والاقتصار على القدر الذي تحمله طاقة المتعلم.
قال القالي في المقصور والممدود: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا أبو العباس عن ابن الأعرابي: وجاد بها الوُرّاد يحجز بينهاْ *** سُدًى بين قَرقار الهدير وأَزْجما أي بين هادر وأخرس، كذا قال ابن الأنباري؛ فلا أدري رواه عن أبي العباس أو قاله هو، وقال أيضاً: حكى الفراء: لا ترجع الأمة على قَرْوَائها أبداً، كذا حكاه عنه ابن الأنباري في كتابه ولم يفسره؛ فاستفسرناه فقال: على اجتماعها؛ فلا أدري أشتقّه أم رواه.
قال في الغريب المصنف عن الأصمعي: العُروة من الشجرة: الذي لا يزال باقياً في الأرض لا يذهب؛ وجمعه عُرَى وهو قول مهلهل: شجرة العُرَى وعُرَاعِرُ الأقوام *** قال أبو عبيدة في العروة مثله أو نحوه إلا أنه قال هذا البيت لشرحبيل؛ رجل من بني تغلب، أبو عمرو مثل قولهما في العُروة أو نحوه.
قال القالي في أماليه: قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن بن دُرَيد هذه القصيدة في شعر كَعبٍ الغَنَوي، وأملاها علينا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش وقال لي: قرئ على أبي العباس محمد بن الحسن الأحول ومحمد بن يزيد وأحمد بن يحيى قال: وبعضهم يروي هذه القصيدة لكعب بن سعد الغَنَوي، وبعضهم يرويها بأسرها لسَهْم الغنوي، وهو من قومه وليس بأخيه، وبعضهم يروي شيئاً منها لسَهْم. قال: وزادنا أحمد بن يحيى عن أبي العالية في أولها بيتين، قال: وهؤلاء كلهم مختلفون في تقديم الأبيات وتأخيرها وزيادة الأبيات ونقصانها وفي تغيير الحروف في متن البيت وعجزه وصدره. قال أبو عليّ: وأنا ذاكر جميع ذلك، قال: والمرثي بهذه القصيدة يُكْنَى أبا المِغوار واسمه هرم، وبعضهم يقول اسمه شبيب؛ ويحتج ببيت رُوي في هذه القصيدة: أقام وخَلَّى الظاعنين شبيبُ *** وهذا البيت مصنوع، والأول كأنه أصح لأنه رواه ثقة.
قال أبو سعيد السُّكَّري في شرح شعر هُذيل: يمتنع التلفيق في رواية الأشعار، قال: كقول أبي ذؤيب: دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِه *** سميعٌ فيما أدْري أَرُشْدٌ طلابُها فإن أبا عمرو رواه بهذا اللفظ دعاني وسميع ورواه الأصمعي بلفظ عصاني بدل دعاني وبلفظ مطيع بدل سميع، قال: فيمتنع في الإنشاء ذكر دعاني مع مطيع، أو عصاني مع سميع؛ لأنه من باب التلفيق.
قال القالي في المقصور والمدود: أخبرني أبو بكر الأنباري قال: أنشد بعضُ الناس قول الشاعر: سيغنيني الذي أغناك عنيْ *** فلا فقرٌ يدوم ولا غَناءُ بفتح الغين وقال: الغَناء: الاستغناء، ممدود. وقوله عندنا خطأ من وجهين؛ وذلك أنه لم يروه أحد من الأئمة بفتح الغين، والشعر سبيلُه أن يحكى عن الأئمة كما تحكى اللغة، ولا تبطل رواية الأئمة بالتظني والحَدْس، والحجة الأخرى أن الغَناء على معنى الغِنى، فهذا يبين لك غلط هذا المتقحم على خلاف الأئمة. انتهى. قال محمد بن سلام: وجدنا رواة العلم يغلطون في الشعر ولا يَضْبط الشعْرَ إلاّ أهلُه، وقد روي عن لَبيد: باتت تَشَكَّى إليّ النفس مجهشةْ *** وقد حملتك سبعاً فوق سبعين فإن تعيشي ثلاثاً تبلغي أملاً *** وفي الثَّلاثِ وفاءٌ للثمانين ولا اختلاف في هذا أنه مصنوع، تكثر به الأحاديث، ويُستعان به على السمر عند الملوك، والملوك لا تَسْتَقْصِي. وكان قَتادة بن دِعامة السَّدوسي عالماً بالعرب وبأنسابها وأيامها، ولم يأتنا عن أحد من علم العرب أصح من شيء أتانا عن قتادة. أخبرنا عامر بن عبد الملك قال: كان الرجلان من بني مرْوان يختلفان في الشعر فيرسلان راكباً، فيُنيخ ببابه، فيسأله عنه ثم يشخص. وكان أبو بكر الهذلي يَروي هذا العلم عن قَتادة، وأخبرني سعيد بن عبيد عن أبي عوانة، قال: شهدت عامرَ بن عبد الملك يسأل قَتادة عن أيام العرب وأنسابها وأحاديثها، فاستحسنته فعدت إليه، فجعلت أسأله عن ذلك، فقال: مالك ولهذا، دَعْ هذا العلم لعامر، وعُدْ إلى شأنك. وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثني أبي عن أحمد بن عبيد عن الزيادي عن المطلب بن المطلب بن أبي وَدَاعة، عن جده قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي اللّه عنه على باب بني شيبة، فمرّ رجل وهو يقول: يا أيُّها الرجل المحوِّل رحلَهْ *** ألاَّ نزلت بآل عبد الدار هَبِلَتْكَ أُمُّكَ لو نزلت برحلهمْ *** مَنَعُوك من عُدْمٍ ومن إقْتَارِ قال: فالتفت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال: يا أيها الرجل المحوِّل رحلَهْ *** ألاّ نزلت بآل عبد منافِ هَبِلتْك أمك لو نزلت برحلهمْ *** منعوك من عُدْم ومن إقرَافِ الخالطين فقيرَهم بغنيهمْ *** حتى يعود فقيرُهم كالكافي وَيُكلِّلُونَ جِفانَهُمْ بسَدِيفهِمْْ *** حتى تَغِيبَ الشَّمْسُ في الرَّجَّافِ قال: فتبسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: هكذا سمعت الرواة ينشدونه.
فصل: ومن آداب اللغوي أن يمسك عن الرواية إذا كَبِر، ونسي، وخاف التخليط. قال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين: كان أبو زيد قارب في سنه المائة، فاختلَّ حِفْظُه، ولم يختلّ عقله، فأخبرنا عبد القدوس بن أحمد، أنبأنا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري، أنبأنا الرياشي قال: رأيت أبا زيد ومعي كتابُه في الشجر والكلأ، فقلت له: أقرأ عليك هذا؟ فقال: لا تقرأه عليَّ، فإني أنسيته.
قال ابن خالويه في شرح الدريدية: خرج الأصمعي على أصحابه فقال لهم: ما معنى قول الخنساء: يذكّرني طلوعُ الشمس صخراً *** وأَندُبُه لكل غروب شمس لم خَصَّت هذين الوقتين؟ فلم يعرفوا، فقال: أرادت بطلوع الشمس للغارة؛ وبمغيبها للقِرى، فقام أصحابه فقبَّلوا رجله. وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: قال يوماً خَلَفٌ لأصحابه: ما تقولون في بيت النابغة الجَعْدِي: كأن مَقَطَّ شراسِيفِه *** إلى طَرَفِ القُنْبِ فَالمَنْقَبِ لو كان موضع فالمنْقَبِ فالقَهْبَلِس كيف كان يكون قوله: لُطِمْن بتُرْس شديد الصِّفا *** قِ من خَشَب الجَوْزِ لم يُثْقَبِ فقالا: لا نعلم، فقال: والآبَنس. وقال لهم مرة أخرى: ما تقولون في قول النّمر بن توليب: ألمّ بصحبتي وَهُمُ هجودْ *** خيالٌ طارق من أُمِّ حِصْنِ لو كان موضع من أم حصن من أم حفص، كيف كان يكون قوله: لها ما تشتهي عَسَلٌ مُصَفًّى *** إذا شاءت وحُوَّاري بسمن قالوا: لا نعلم، فقال: وحُوَّارى بَلَمص، وهو الفالوذ.
فصل: ولا بأس بامتحان من قدم؛ ليُعْرف محلُّه في العلم ويُنزَل منزلته؛ لا لقصد تعجيزه وتبكيته فإن ذلك حرام. وفي فوائد النَّجَيْرَمِي بخطه: قال أبو عبد اللّه اليزيدي: قدم أبو الذوّاد محمد بن ناهض عَلَى إبراهيم بن المدير فقال: أريد أن أرى صاحبكم أبا العباس ثعلباً- وكان أبو الذوّاد فصيحاً- فمضيت به إليه وعرفته مكانه فقربه وحاوره ساعة، ثم قال له ثعلب: ما تُعَاني في بلادك؟ قال: الإبل، قال: فما معنى قول العرب للبعير: نعم معلق الشَّرْبة هذا؟ فقال أبو الذوّاد: أراد سرعة هذا البعير إذا كان مع راكبه شربة أجزأته لسرعته حتى يُوَافِيَ الماء الآخر، قال: أصبت، فما معنى قولهم: بعير كريم، إلاّ أن فيه شارب خَوَر؟ فقال: الشوارب: عروق تكون في الحلق في مجاري الأكل والشرب، فأراد أنه لا يستوفي ما يأكله ويشربه فهو ضعيف؛ لأن الخَوَر: الضعف، فقال ثعلب: قد جمع أبو الذوّاد علماً وفصاحة، فاكتبوا عنه واحفظوا قوله.
قال ابن دُريد في الجمهرة: سألت أبا حاتم عن باع وأباع، فقال: سألت الأصمعي عن هذا فقال: لا يقال أباع، فقلت قول الشاعر: فليس جوادنا بمباع *** فقال: أي غير معرض للبيع. وقال: يقال: هوى له، وأهوى، وقال الأصمعي: هوى من علو إلى سفل، وأهوى إليه إذا غَشِيَه، قال ابن دريد: قلت لأبي حاتم: أليس قد قال الشاعر: هوى زَهْدَم تحت العَجاج لحاجب *** كما انقضَّ باز أقتمُ الريش كاسِر فقال: أحسب الأصمعي أُنْسي، وهذا بيت فصيح صحيح، وقال: سمع ابن أحمر يقول: أهوى لها مِشْقَصاً حشْراً فشَبْرقَها *** وكنت أدعو قَذَاها الإثْمِدَ القَرِدا فاستعمل هذا ونسي ذاك. وقال في الجمهرة: جمع فَعَل على أَفْعِلة في المعتل، أجازه النحويون ولم تتكلم به العرب، مثل: رَحَى وأرحية، ونَدَى وأندية، وقفا وأقفية، قال أبو عثمان: سألت الأخفش: لم جمعت نَدَى على أندية؟ فقال نَدى في وزن فَعل، وجَمل في وزن فَعل فجمعت جملاً جِمالاً فصار في وزن نِداء، فجمعت نِداء أندية، قال: وهذا غير مسموع من العرب، وفيها: تقول العرب للرجل في الدعاء عليه: أَرِبْتَ من يديك، فقلت لأبي حاتم: ما معنى هذا فقال: شُلّت يده، وسأل عبد الرحمن فقال: أن يسأل الناس بهما. وقال في الجمهرة: قالوا ناب أعصل، وأنياب عِصال، وأنشد يقول: وَفُرَّ عن أنيابها العِصال *** فقلت لأبي حاتم: ما نظير أَعصَل وعِصَال؟ فقال: أبْطَح وبِطَاح، وأَجْرَب وجِراب، وأَعْجَف وعِجاف. وقال، سأل النعمانُ بن المنذر رجلاً طعن رجلاً فقال: كيف صنعت؟ فقال: طعنته في الكَبَّة، طعنة في السَّبَّة، فأنفذتُها من اللَّبة؛ فقلت لأبي حاتم: كيف طعنه في السَّبة وهو فارس؟ فضحك، وقال: انهزم فتَبعه فلما رَهِقه أكبّ ليأخذ بمَعرفَةِ فرسه، فطعنه في سبّته؛ أي دبره! وقال القالي في أماليه: حدثني أبو بكر بن دريد، قال: حدثني أبو حاتم: قال: قلت للأصمعي: أتقول في التَّهدد: أبْرق وأرْعد؟ فقال: لا؛ لست أقول ذلك إلاّ أن أرَى البَرْق أو أسمع الرَّعْد، قلت: فقد قال الكميت: أبرق وأرعد يا يزيْ *** د فما وعيدك لي بِضَائر فقال: الكميت جُرْمُقانيّ من أهل الموصل، ليس بحجة، والحجة الذي يقول: إذا جاوزت من ذات عرق ثَنيَّةًْ *** فَقُل لأبي قابوسَ ما شئت فارْعُد فأتيت أبا زيد، فقلت له: كيف تقول من الرعد البرق: فَعَلت السماء؟ فقال: رَعَدَتْ وَبَرَقَت، فقلت: من التهدد؟ فقال: رَعَد وبَرَق وأَرْعد وأبرَق؛ فأجاز اللغتين جميعاً. وأقبل أعرابي محرم، فأردت أن أسأله، فقال لي أبو زيد: دَعْني فأنا أعرف بسؤاله منك فقال: يا أعرابي، كيف تقول: رَعَدت السماء وبرقت أَوْ أرعدت وأبرقت؟ فقال: رعدت وبرقت، فقال أبو زيد: فكيف تقول للرجل مِنْ هذا؟ فقال: أمن الجَخِيف تريد؟ يعني التهديد؛ فقال: نعم فقال: أقول رَعَدَ وبَرَق وأرْعد وأبرق. وفي الغريب المصنف: الزنجيل: الضعيف البدن من الرجال، قال الأموي: الزِّنْجيل بالنون فسألت الفراء عنها فقال الزِّئجيل بالياء مهموز قال أبو عبيد: وهو عندي على ما قال الفراء لقولهم في بعض اللغات الزؤاجل. وفيه: قال الأموي: جرح تَغَّار بالتاء إذا سال منه الدم، وقال أبو عبيدة: نَغَّار بالنون،قال أبو عُبيد: هو بالنون أشبه. وقال ثعلب في أماليه: أنشدنا ابن الأعرابي: ولا يدرك الحاجات من حيث تبتغي *** من الناس إلاّ المصبحون على رحل قال ثعلب: قلنا لابن الأعرابي: أمعه آخر؟ قال: لا، هو يَتِيم.
الأولى: قال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول على الخط العربي وأول من كتب به: يروى أن أول من كتب الكتاب العربيّ والسريانيّ والكتب كلها آدمُ عليه السلام قبل موته بثلثمائة سنة، كتبها في طين وطبخه، فلما أصاب الأرضَ الغرقُ وجد كل قوم كتاباً فكتبوه، فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي. قلت: هذا الأثر أخرجه ابن أشْتَة في كتاب المصاحف بسنده عن كعب الأحبار. ثم قال ابن فارس: وكان ابن عباس يقول: أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل عليه السلام وضعه على لفظه ومنطقه. قلت: هذا الأثر أخرجه ابن أَشْتَة والحاكم في المستدرك من طريق عكرمة عن ابن عباس، وزاد أنه كان موصولاً حتى فرقه بين ولده، يعني أنه وصل فيه جميع الكلمات ليس بين الحروف فوق هكذا: بسم اللّه الرحمن الرحيم، ثم فرقه بين ابنيه هميسع وقيذر. ثم قال ابن فارس: والروايات في هذا الباب تكثر وتختلف. قلت: ذكر العسكري عن الأوائل في ذلك أقوالاً فقال: أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل عليه السلام، وقيل مُرَامِر بن مُرَّة، وأسلم بن جَدَرَة؛ وهما من أهل الأنبار، وفي ذلك يقول الشاعر: كتبت أبا جاد وحُطِّي مرامر *** وسوّدت سربالي ولست بكاتب وقيل: أول من وضعه، أبجدُ وهوّز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، وكانوا ملوكاً فسمي الهجاء بأسمائهم. وأخرج الحافظ أبو طاهر السلفي في الطيوريات بسنده عن الشعبي قال: أول العرب الذي كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس، تعلم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار. وقال أبو بكر بن أبي داوود في كتاب المصاحف: حدثنا عبد اللّه بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال: سَألْنَا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: تعلمنا من أهل الحيرة، وسألنا أهل الحيرة: من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار. ثم قال ابن فارس: والذي نقوله فيه: إن الخط توقيف؛ وذلك لظاهر قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، وقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ}. وإذا كان كذا فليس ببعيد أن يوَقَّف آدم عليه السلام أو غيرُه من الأنبياء عليهم السلام على الكتاب؛ فأما أن يكون مخترع اخترعه من تلقاء نفسه؛ فشيء لا يُعْلَم صحته إلاّ من خبر صحيح. قلت: يؤيد ما قاله من التوقيف ما أخرجه ابنُ أَشْتَة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أول كتاب أنزله اللّه من السماء أبو جاد. وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام». قال ابن فارس: وزعم قوم أن العرب العَارِبَة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحواً ولا إعراباً، ولا رفعاً ولا نصباً ولا همزاً، قالوا: والدليل على ذلك ما حكاه بعضهم عن بعض الأعراب أنه قيل له: أتهمز إسرائيل؟ فقال: إني إذن لَرَجلُ سوء قالوا: وإنما قال ذلك؛ لأنّه لم يعرف من الهمز إلاّ الضغط والعصر، وقيل لآخر: أتجرُّ فلسطين؟ فقال: إني إذن لقوي! قالوا: وسمع بعض فصحاء العرب ينشده: نحن بني عَلْقَمَة الأخيارا *** فقيل له: لم نصبت بَني؟ فقال: ما نصبته، وذلك أنه لم يعرف من النصب إلاّ إسناد الشيء. قالوا: وحكى الأخفش عن أعرابي فصيح أنه سُئل أن ينشد قصيدة على الدال فقال: وما الدال؟ وحكى أن أبا حية النميري سئل أن ينشد قصيدة على الكاف فقال: كفى بالنأي من أسماءَ كافِ *** وليس لحبها إذ طال شاف قال ابن فارس: والأمر في هذا بخلاف ما ذهب إليه هؤلاء، ومذهبنا فيه التوفيق فنقول: إن أسماء هذه الحروف داخلةٌ في الأسماء التي أعلم اللّه تعالى أنه علمها آدم عليه السلام وقد قال تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَان}؛ فهل يكون أولُ البيان إلاّ علم الحروف التي يقع بها البيان؟ ولم لا يكون الذي علم آدم الأسماء كلَّها هو الذي علمه الألف والباء والجيم والدال؟ فأما من حكى عنه الأعراب الذين لم يعرفوا الهمز والجر والكاف والدال، فإنا لم نزعم أن العرب كلها مَدراً ووبراً قد عرفوا الكتابة كلَّها، والحروف أجمعها، وما العرب في قديم الزمان إلاّ كنحن اليوم، فما كل أحد يعرف الكتابة والخط والقراءة، وأبو حية كان أمس وقد كان قبله بالزمن الأطول من كان يعرف الكتابة ويخط ويقرأ، وكان في أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كاتبون، منهم: عثمان وعلي وزيد وغيرهم، وقد عرضت المصاحف على عثمان فأرسل بكَتِفِ شاة إلى أبيّ بن كعب فيها حروف فأصلحها، أفيكون جهل أبي حية بالكتابة حجة على هؤلاء الأئمة؟ والذي نقوله في الحروف هو قولنا في الإعراب والعروض، والدليل على صحته هذا وأن القوم قد تَداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها: شاقتكَ أظعان لليلى دون ناظرةٍ بواكرْ *** فنجد قوافيها كلها عند الترنم والإعراب تجئ مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها، لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقاً من غير قصد لا يكاد يكون. فإن قال قائل: فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أولُ من وضع العربية وأن الخليل أول من تكلم في العروض. قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول: إن هذين العِلْمين قد كانا قديماً، وأتت عليهما الأيام وقلاّ في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان، وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب، وأما العروض فمن الدليل على أنه كان متعارفاً معلوماً قول الوليد بن المغيرة منكراً لقول من قال إن القرآن شعر: لقد عرضته على أقْرَاء الشعر، هَزَجِه ورَجَزه، وكذا وكذا، فلم أره يشبه شيئاً من ذلك أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف بحور الشعر! وقد زعم ناس أن علوماً كانت في القرون الأوائل، والزمن المتقادم، وأنها دَرَست وجددت منذ زمان قريب، وترجمت وأصلحت منقولة من لغة إلى لغة؛ وليس ما قالوا ببعيد، وإن كانت تلك العلوم بحمد اللّه وحسن توفيقه مرفوضة عندنا. فإن قال: قد سمعناكم تقولون: إن العرب فعلت كذا ولم تفعل كذا: من أنها لا تجمع بين ساكنين، ولا تبتدئ بساكن، ولا تقف على متحرك، وأنها تسمى الشخص الواحد بالأسماء الكثيرة، وتجمع الأشياء الكثيرة تحت الاسم الواحد. قلنا: نحن نقول: إن العربَ تفعل كذا بعد ما وطّأناه أن ذلك توقيف؛ حتى ينتهي الأمر إلى الموقف الأول. ومن الدليل على عِرْفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتُهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو، والياء، والهمز، والمد، والقصر، فكتبوا ذوات الياء باليا، وذوات الواو بالألف، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكناً في مثل: الخبء والدفء والملء؛ فصار ذلك كلّه حجة، وحتى كره من كره من العلماء ترك اتباع المصحف. انتهى كلام ابن فارس. وقال ابن دريد في أماليه: أخبرني السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي عن عوانة قال: أول من كتب بخطنا هذا وهو الجزم مُرَامِر بن مُرّة وأسلم بن جَدَرَة الطائيان، ثم علموه أهل الأنبار، فتعلمه بِشْر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دُومَة الجَنْدَل، وخرج إلى مكة، فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، فعلّم جماعة من أهل مكة، فلذلك كثر من يكتب بمكة في قريش، فقال رجل من أهل دومة الجندل من كندة يَمنُّ على قريش بذلك: لا تجْحَدوا نَعْمَاء بِشْرٍ عليكمو *** فقد كان ميمونَ النقيبةِ أَزْهَرَا أتاكم بخط الجَزْمِ حتى حفظتمو *** من المال ما قد كان شتى مبعثرا أتقنتمو ما كان بالمال مُهمَلاً *** وطامنتمو ما كان منه منفرا فأجريتمُ الأقلام عَوْداً وبَدأةً *** وضاهيتمو كتَّاب كسرى وقيصرا وأُغْنيتمو عن مُسْنِد الحي حِمْير *** وما زَبَرت في الصحف أقيال حميرا وقال الجوهري في الصِّحاح: قال شَرْقي بن القَطامي: إن أول من وضع خطنا هذا رجال من طيٍّ منهم مُرامر بن مرة قال الشاعر: تعلمت باجاد وآل مرامر *** وسودت سربالي ولست بكاتب وإنما قال: آل مرامر؛ لأنه قد سمى كل واحد من أولاده بكلمة من أبي جاد وهم ثمانية. وقال أبو سعيد السِّيرافي: فصَّل سيبويه بين أبي جاد وهوَّز وحطى؛ فجعلهن عربيات، وبين البواقي فجعلهن أعجميات، وكان أبو العباس يجيز أن يكون كلهن أعجميات، وقال من يحتج لسيبويه: جعلهن عربيات لأنهن مفهومات المعاني في كلام العرب، وقد جرى أبو جاد على لفظ لا يجوز أن يكون إلاّ عربياً تقول: هذا أبو جاد، ورأيت أبا جاد، وعجبت من أبي جاد، قال أبو سعيد: ولا تبعد فيها العجمة لأن هذه الحروف عليها يقع تعليم الخط بالسرياني وهي معارف، وقال المسعودي في تاريخه: قد كان عدة أمم تفرقوا في ممالك متصلة؛ منهم المسمى بأبي جاد، وهوَّز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشيات، وهم بنو المحصن بن جندل بن يصعب بن مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام. وأحرف الجُمَّل هي أسماء هؤلاء الملوك وهي الأربعة والعشرون حرفاً التي عليها حساب الجُمَّل، وقد قيل في هذه الحروف غير ذلك؛ فكان أبجد ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكان هوز وحطي ملكين بأرض الطائف، وما اتصل بها من أرض نجد، وكلمن وسعفص وقرشيات ملوكاً بمدين، وقيل: ببلاد مضر، وكان كلمن على أرض مدين وهو ممن أصابه عذاب يوم الظُّلَّة مع قوم شعيب؛ وكانت جارية ابنته بالحجاز، فقالت ترثي كلمن أباها بقولها: كلَمُونٌ هدَّ رُكني *** هلكه وسْط المحلَّهْ سيد القوم أتاه ال *** حتف ثَاوٍ وَسْطَ ظُلَّهْ كونت ناراً فأضحت *** دار قومي مُضْمَحِله وقال المنتصر بن المنذر المديني: ألاَ يا شعيب قد نطقت مقالة *** أتيت بها عمراً وحي بني عمرو هُمُ ملكوا أرض الحجاز بأوْجُه *** كمثل شعاع الشمس في صورة البدر وهُمْ قَطنوا البيت الحرام وزينوا *** قطوراً وفازوا بالمكارم والفخر ملوك بني حطي وسعفص في الندي *** وهوّز أرباب الثَّنِية والحِجر وقال الخطيب في المتفق والمفترق: أخبرنا علي بن المحسِّن التَّنُوخي: حدثنا أحمد بن يوسف الأزرق، أخبرنا عمي إسماعيل بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، حدثني أبو الفوارس بن الحسن بن منبه أحمد اليربوعي، حدثنا يحيى بن محمد بن حشيش المغربي القرشي، حدثنا عثمان بن أيوب من أهل المغرب، حدثنا بهلول بن عبيد التجيي، عن عبد اللّه بن فرّوخ عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن أبيه قال: قلت لابن عباس: معاشرَ قريش؛ من أين أخذتم هذا الكتاب العربي قبل أن يُبعث محمد صلى الله عليه وسلم، تجمعون منه ما اجتمع، وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام؟ قال: أخذناه من حرب بن أمية، قال: فمّمن أخذه حرب؟ قال: من عبد اللّه بن جُدْعان، قال: فممّن أخذه ابن جُدعان؟ قال: من أهل الأنبار، قال: فممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من أهل الحيرة؛ قال فممّن أخذه أهل الحيرة؟ قال: من طارئ طرأ عليهم من اليمن من كندة، قال: فممّن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: من الخفلجان بن الوهم كاتب الوحي لهود عليه السلام. وفي فوائد النَّجَيْرَميّ بخطه: قال عيسى بن عمر النحوي: أملى عليَّ ذو الرُّمة شعراً، فبينا أنا أكتبه إذ قال لي: أصلح حرف كذا وكذا؛ فقلت له: إنك لا تخطّ، قال: أجل، قدم علينا عراقي لكم، فعلّم صبياننا؛ فكنت أخرج معه في ليالي القمر، فكان يخط لي في الرمل فتعلمته. وقال القالي في أماليه: حدثني أبو المياس قال، حدثني أحمد بن عبيد بن ناصح، قال: قال الأصمعي: قيل لذي الرُّمة: من أين عرفتَ الميم لولا صِدْقُ مَنْ يَنْسُبُك إلى تعليم أولاد الأعراب في أكتَاف الإبل؟ فقال: واللّه ما عرفتُ الميم، إلاّ أني قدِمت من البادية إلى الريف، فرأيت الصبيان وهم يجوزون بالفِجْرم في الأُوَق، فوقفت حِيالهم أنظر إليهم، فقال غلام من الغِلمة: قد أزَّفتم هذه الأوقة، فجعلتموها كالميم، فقام غلام من الغِلمة فوضع فمه في الأُوقة فَنَجْنَجه، فأفْهقها، فعلمت أن الميم شيء ضيق فشبهت عين ناقتي به، وقد اسلَهمَّت وأعيت، قال أبو المياس، الفِجْرم: الجوز. قال القالي: ولم أجد هذه الكلمة في كتب اللغويين ولا سمعتها من أحد من أشياخنا غيره. والأُوقة: الحفرة، وقوله: أزَّفتم أي ضيقتم، ونَجْنَجَه: حَرّكه، وأفهقها: ملأها والمِنْجم: العقب، وكل ما نتأ وزاد على ما يليه فهو مِنْجم أيضاً، واسْلَهَمّت: تغيرت والمسلهمّ: الضامر المتغير. فائدة. قال الزَّجاجي في شرح أدب الكاتب: روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ}، قال: الخط الحسن، وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْض إنِّي حَفِيظٌ عَلِيم} قال: كاتب حاسب، وقال تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}، قال بعض المفسرين: هو الصوت الحسن، وقال بعضهم: هو الخط الحسن. وقال صاحب كتاب زاد المسافر: الخط لليد لسان، وللخَلَدِ تَرجمان، فرداءَته زَمَانة الأدب، وجودته تبلغ بصاحبه شرائف الرتب، وفيه المرافق العظام التي مَنّ اللّه بها على عباده فقال جل ثناؤه: {وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بالْقَلَم}، وروي جبير عن الضحاك في قوله تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَان}، قال: الخط، وقيل في قوله تعالى: {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيم}: أي كاتب حاسب؛ وهو لمحة الضمير، ووحي الفكر، وسفير العقل، ومستودع السر، وقيد العلوم والحِكم، وعنوان المعارف، وترجمان الهمم؛ وأما قول الشيباني: ما استجدنا خط أحد إلاّ وجدنا في عوده خَوَراً، فهل يسف إليه الفقهاء، ويتجافى عنه الكتاب والبلغاء؟ ولإيثاره أبينه، حرم أجوده وأحسنه. ولما أعجب المأمون بخط عمرو بن مسعدة قال له: يا أمير المؤمنين، لو كان الخط فضيلة لأوتيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولئن سرّ بما قاله عن ابن عباس فقد أنكره عليه كثير من عقلاء الناس، إذ الأنبياء عليهم السلام يجِلُّون عن أشياء ينال غيرهم بها خصائص المراتب، ويُحْرِز بالانتماءِ إليها عقائل المواهب، ومن أهل الجاهلية نفر ذو عدد كانوا يكتبون، والعرب إذ ذاك من عزّ بزّ؛ منهم بشر بن عبد الملك صاحب دُومة الجنْدَل، وسفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن عمرو بن عدس. وممن اشتهر في الإسلام بالكتابة من عِلْية الصحابة عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وأبو عبيدة، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ويزيد بن أبي سفيان، وأقسم بالقلم في الكتاب الكريم، وأحسن عديّ حيث شبه به قرن الرِّيم: تُزْجِي أغَنَّ كأنَّ إبْرَةَ رَوْقِهِ *** قَلَمٌ أصاب من الدّوَاة مِدَادَهَا وهو أمضى بيد الكاتب من السيف بيد الكميَّ، وقد أصاب ابن الرومي في قوله شاكلة الرمي: كذا قضى اللّه للأقلام إذْ بُرِيَتْ *** أن السيوف لها مذ أُرْهِفْت خَدَمُ وكان المأمون يقول: للّه دَرُّ القلم كيف يحوك وشي المملكة. ووصفه عبد اللّه بن المعتز فقال: يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، فيسكت واقفاً؛ وينطق سائراً على أرض بياضها مظلم وسوادها مضيء. وقال أرسطو طاليس: عقول الرجال تحت أسنان أقلامها. وقال علماؤنا: إن أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام، فمتى وضع الخط العربي وسُطِّر المسند الحميري. وقد ذكر أن لغة يونان عارية من حرف الحلق، ومخالفة لسائر لغات الخَلق.
|